المسيرة الخضراء: ملحمة التحرير والوحدة

 


تُعَدُّ المسيرة الخضراء من أعظم الأحداث الوطنية في تاريخ المغرب الحديث، ومن أبرز الصفحات المشرقة التي سطّرها الشعب المغربي بقيادة ملكه الراحل جلالة الملك الحسن الثاني طيّب الله ثراه. كانت هذه المسيرة تعبيرًا سلميًّا وحضاريًّا عن إرادة أمة بأكملها في استرجاع جزء عزيز من ترابها الوطني، ألا وهو هو الصحراء المغربية . فبعد حصول المغرب على استقلاله سنة 1956، بقيت بعض أقاليمه الجنوبية تحت السيطرة الإسبانية، ومن بينها إقليم الصحراء الغربية. حاول المغرب لسنوات عديدة استرجاع هذا الجزء من أراضيه بالطرق الدبلوماسية، ورفع القضية إلى الأمم المتحدة التي أقرّت بحق المغرب في الصحراء، غير أن إسبانيا كانت تماطل في الانسحاب.

وفي هذا السياق، جاء القرار التاريخي للملك الحسن الثاني سنة 1975، عندما دعا الشعب المغربي إلى تنظيم مسيرة سلمية ضخمة نحو الصحراء للمطالبة باسترجاعها، مؤكدًا أن «المسيرة ستكون سلمية لا سلاح فيها سوى الإيمان بالله والوطن».

في الخطاب الملكي بتاريخ 16 أكتوبر 1975، أعلن الملك الحسن الثاني عن انطلاق المسيرة الخضراء، بعد صدور رأي محكمة العدل الدولية الذي أكّد وجود روابط قانونية وتاريخية بين المغرب وأقاليمه الجنوبية.

قال الملك في خطابه الشهير:


“غدًا ستنطلقون إن شاء الله، وستحملون كتاب الله في يدكم، وستحملون العلم المغربي في اليد الأخرى.”


كانت تلك الكلمات نداءً للأمة المغربية جمعاء، فاستجاب له أكثر من 350 ألف متطوع ومتطوعة من جميع أنحاء المملكة، يمثلون مختلف فئات الشعب المغربي، نساءً ورجالًا، كبارًا وصغارًا، كلهم متجهون نحو هدف واحد: تحرير الصحراء واسترجاعها إلى الوطن الأم.

وفي السادس من نونبر 1975، انطلقت جموع المشاركين في المسيرة الخضراء من مدينة طرفاية نحو الحدود مع الصحراء، وهم يرفعون الأعلام المغربية والمصاحف ويرددون الأناشيد الوطنية. كانت المسيرة سلمية تمامًا، لم تحمل سلاحًا، بل كانت تحمل رسالة سلام وعدالة للعالم بأسره، عنوانها أن المغرب لا يسعى للحرب، بل لاسترجاع حقه المشروع بطريقة حضارية.


وقد كان للمسيرة صدى عالمي واسع، إذ انبهرت شعوب العالم بتنظيمها المحكم وبسلميتها، وبالروح الوطنية التي أبان عنها المغاربة قيادةً وشعبًا.

أمام هذا الضغط الشعبي والسياسي الهائل، اضطرت إسبانيا إلى التفاوض مع المغرب. وفي 14 نونبر 1975، تم توقيع اتفاقية مدريد الثلاثية بين المغرب وإسبانيا وموريتانيا، التي أنهت الوجود الإسباني في الصحراء، وسمحت بعودة الأقاليم الجنوبية إلى السيادة المغربية تدريجيًا . وهكذا تحقّق النصر دون إطلاق رصاصة واحدة، وحقّق المغرب إحدى أعظم إنجازاته في القرن العشرين . وتعتبر المسيرة الخضراء رمزًا للوحدة الوطنية، والتلاحم بين العرش والشعب. فقد أبان الشعب المغربي خلالها عن وعي حضاري وإيمان راسخ بعدالة قضيته، وأثبت أن الإرادة الجماعية قادرة على صنع التاريخ دون عنف أو دماء .

كما أصبحت المسيرة درسًا خالدًا في الوطنية، يُدرَّس للأجيال المتعاقبة، ليتعلّم منها الشباب معنى الانتماء للوطن، والتشبث بالوحدة الترابية، والإيمان بالعمل السلمي في سبيل الحق.

ويُخلّد المغاربة ذكرى المسيرة الخضراء في 6 نونبر من كل سنة، احتفالًا بحدث صنع مجد الأمة، وفرصة لتجديد العهد والولاء للوطن ووحدته الترابية.

وفي هذه المناسبة، يُلقي الملك محمد السادس نصره الله خطابًا ساميًا يذكّر فيه بأهمية الحدث، وبالجهود المبذولة لتنمية الأقاليم الجنوبية التي أصبحت اليوم نموذجًا للتنمية والاستقرار في إفريقيا

.إن المسيرة الخضراء ليست مجرد حدث تاريخي عابر، بل هي رمز خالد للوطنية والوحدة والإيمان بالحق. لقد أثبت المغرب من خلالها أن قوة الإيمان والوحدة الوطنية أقوى من أي سلاح، وأن الدفاع عن الأرض والعرض لا يحتاج إلى عنف، بل إلى وعي وإصرار وعدالة قضية.


ستبقى المسيرة الخضراء خالدة في قلوب المغاربة جميعًا،بمثابة صفحة ذهبية في كتاب تاريخهم المجيد، ودليلًا على أن الوطنية الصادقة تصنع المعجزات وتحقق الغايات .

Post a Comment

Previous Post Next Post